الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
أي أصابها بما يُشلها وقول جميل: وقوله تعالى: {والذين يرمون أزواجهم} [النور: 6] فيجوز أن يكون {رميتَ} الأول وقولَه: {ولكن الله رمى} مستعملين في معناهما المجازي أي وما أصبت أعينَهم بالقذى ولكن الله أصابها به لأنها إصابة خارقة للعادة فهي معجزة للنبيء صلى الله عليه وسلم وكرامة لأهل بدر فنفيت عن الرمي المعتاد وأسندت إلى الله لأنها بتقدير خفي من الله، ويكون قوله: {إذ رميت} مستعملًا في معناه الحقيقي، وفي القرطبي عن ثعلب أن المعنى وما رميتَ الفزع والرعب في قلوبهم إذ رميت بالحصباء فانهزموا، وفيه عن أبي عبيدة أن (رميتَ) الأول والثاني، و(رمى) مستعملة في معانيها الحقيقية، وهو ما درج عليه جمهور المفسرين وجعلوا المنفي هو الرمي الحقيقي والمثبت في قوله: {إذ رميت} هو الرمي المجازي وجعله السكاكي من الحقيقة والمجاز العقليين فجعل ما رميت نفيًا للرمي الحقيقي وجعل (إذ رميت) للرمي المجازي.وقوله: {إذ رميت} زيادة تقييد للرمي وأنه الرمي المعروف المشهور، وإنما احتيج إليه في هذا الخبر ولم يؤت بمثله في قوله: {فلم تَقتلوهم} لأن القتل لما كانت له أسباب كثيرة كان اختصاص سيوف المسلمين بتأثيره غير مشاهد، وكان من المعلوم أن الموت قد يحصل من غير فعل فاعل غيرِ الله، لم يكن نفي ذلك التأثير، وإسناد حصوله إلى مجرد فعل الله محتاجًا إلى التأكيد بخلاف كون رمي الحصى الحاصل بيد الرسول صلى الله عليه وسلم حاصلًا منه، فإن ذلك أمر مشاهد لا يقبل الاحتمال، فاحتيج في نفيه إلى التأكيد إبطالًا لاحتمال المجاز في النفي بأن يُحمل على نفي رمي كامل، فإن العرب قد ينفون الفعل ومرادهم نفي كماله حتى قد يَجمعون بين الشيء وإثباته أو نفي ضده بهذا الاعتبار، كقول عباس بن مرداس: أي شيئًا مجديًا، فدل قوله: {إذ رميت} على أن المراد بالنفي في قوله: {وما رميت} هو الرمي بمعنى أثره وحصول المقصود منه، وليس المراد نفي وقوع الرمي مثل المراد في قوله: {فلم تقتلوهم} لأن الرمي واقع من يد النبي صلى الله عليه وسلم ولكن المراد نفي تأثيره، فإن المقصود من ذلك الرمي إصابة عيون أهل جيش المشركين وما كان ذلك بالذي يحصل برمي اليد، لأن أثر رمي البشر لا يبلغ أثره مبلغ تلك الرمية، فلما ظهر من أثرها ما عم الجيش كلهم، عُلم انتفاء أن تكون تلك الرمية مدفوعة بيد مخلوق، ولكنها مدفوعة بقدرة الخالق الخارجة عن الحد المتعارف، وأن المراد بإثبات الرمي في قوله: {ولكن الله رمى} كالقول في {ولكن الله قتلهم}.وقرأ نافع والجمهور {ولكن} بتشديد النون في الموضعين وقرأه ابن عامر، وحمزة، والكسائي بسكون النون فيهما.عطف على محذوف يؤذن به قوله: {فلم تقتلوهم} الآية وقوله: {وما رميت} الآية.فإن قتلهم المشركين وإصابة أعينهم كانا الغرض هزم المشركين فهو العلة الأصلية، وله علة أخرى وهي أن يبلي الله المؤمنين بلاءً حسنًا أي يعطيهم عطاءً حسنًا يشكرونه عليه، فيظهر ما يدل عن قيامهم بشكره مما تختبر به طويتهم لمن لا يعرفها، وهذا العطاء هو النصر والغنيمة في الدنيا والجنةُ في الآخرة.واعلم أن أصل مادة هذا الفعل هي البلاء وجاء منه الإبلاء بالهمز وتصريفُ هذا الفعل أغفله الراغب في المفردات ومن رأيتُ من المفسرين، وهو مضارع أبلاه إذا أحسن إليه مشتق من البلاء والبلوى الذي أصله الاختيار ثم أطلق على إصابة أحد أحدًا بشيء يظهر به مقدار تأثره، والغالب أن الإصابة بشرّ، ثم توسع فيه فأطلق على ما يشمل الإصابة بخير قال تعالى: {ونبلُوكم بالشر والخير فتنةً} [الأنبياء: 35] وهو إطلاق كنائي وشاع ذلك الإطلاق الكنائي حتى صار بمنزلة المعنى الصريح، وبقي الفعل المجرد صالحًا للإصابة بالشر والخير، واستعملوا أبلاه مهموز أي أصابةُ بخير قال ابن قتيبة: يقال من الخير أبليته إبلاء ومن الشر بلوته أبلوه بلاءً.قلت: جعلوا الهمزة فيه دالة على الإزالة أي إزالة البلاء الذي غلب في إصابة الشر ولهذا قال تعالى: {بلاء حسنًا} وهو مفعول مطلق لفعل يُبليَ موكد له، لأن فعل يبلي دال على بلاء حسن وضمير {منه} عائد إلى اسم الجلالة و(من) الابتداء المجازي لتشريف ذلك الإبلاء ويجوز عود الضمير إلى المذكور من القتل والرمي ويكون (من) للتعليل والسببية.وقوله: {إن الله سميع عليم} تذييل للكلام و(إن) هذا مقيدة للتعليل والربط أي فعل ذلك لأنه سميع عليم، فقد سمع دعاء المؤمنين واستغاثتهم وعلم أنهم لعنايته ونصره فقبل دعاءهم ونصرهم. اهـ.
إذن فالمؤمنون حين حاربوا أهل الكفر. إنما يجرحونهم فقط، أما الموت فهو واقع بهم من الله سبحانه وتعالى.{فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ ولكن الله قَتَلَهُمْ} [الأنفال: 17].ولقائل أن يقول: إن الحق تبارك وتعالى قال في موقع آخر: {قاتلوهم يُعَذِّبْهُمُ الله بِأَيْدِيكُمْ} [التوبة: 14].إذن فللمؤمن المقاتل مظهرية القتال، وللحق حقيقة القتل. ولذلك يأتي سبحانه وتعالى بعد ذلك بقوله: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ ولكن الله رمى} [الأنفال: 17].وفي هذا القول الكريم عطاء لشيء كان مجهولا لهم بشيء عُلِم لهم، وبذلك قاس غير معلوم بمعلوم. وعرفنا من قبل أنك إذا رأيت حدثاَ أو فعلًا منفيًا ومثبتا له في وقت واحد، قد يبدو لك أن في الكلام تناقضًا. وهنا- على سبيل المثال- ينفي الحق الحدث في قوله: {وما رميت} وثبته في قوله: {إذ رميت}. والرمي معروف. والفاعل هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكيف ينفي عنه الفعل أولًا، ويثبته له ثانيًا؟.ونعلم أن القائل هو رب حكيم، وأسلوبه على أعلى ما يكون. وحتى نفهم هذه المسألة، نحن نعرف أن كل حدث له هيئة يقع عليها وله غاية ينتهي إليها، فمرة يوجد الحدث، لكن الغاية منه لا تتحقق، مثلما يقول الوالد لولده: لقد قرب الامتحان فاجلس في حجرتك وذاكر. ويجلس الولد في حجرته وأمامه كتاب ما يقلب صفحاته، وبعد ساعة يدخل الأب حجرة ابنه ليقول: هات كتابك لأسألك فيما ذاكرته. ويسأل الأب ابنه سؤالًا ثم ثانيًا فلا يعرف الابن الإجابة عن الأسئلة، فيقول الأب: ذاكرت وما ذاكرت. أي كأنه لم يذاكر، بل فعل الفعل شكليًّا، بأن جلس إلى المذاكرة، ولم يؤد ما عليه لأن أثر الفعل وهو المذاكرة لم يتحقق.وفي غزوة بدر استنجد رسول الله صلى الله عليه وسلم بربه واستغاث ودعا الله ورفع يديه فقال: «يا رب إن تهلك هذه العصابة فلن تعبد في الأرض أبدًا، فقال له جبريل: خذ قبضة من التراب فارم بها في وجوههم» فأخذ صلى الله عليه وسلم قبضة من التراب فرمى بها في وجوههم فما من المشركين أحد إلاّ أصاب عينيه ومنخريه وفمه تراب من تلك القبضة فولوا مدبرين.
|